الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عاشور: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} مناسب لقوله: {اتخذوا أيمانهم جنة} [المجادلة: 16] فكما لم تَقِهم أيمانهم العذابَ لم تُغن عنهم أموالهم ولا أنصارهم شيئًا يوم القيامة.وكان المنافقون من أهل الثراء بالمدينة، وكان ثراؤهم من أسباب إعراضهم عن قبول الإِسلام لأنهم كانوا أهل سيادة فلم يرضوا أن يصيروا في طبقة عموم الناس.وكان عبد الله بنُ أُبيّ ابن سلول مهيًّا لأن يملكوه على المدينة قبيل إسلام الأنصار، فكانوا يفخرون على المسلمين بوفرة الأموال وكثرة العشائر وذلك في السنة الأولى من الهجرة، ومن ذلك قول عبدِ الله بن أُبيّ ابن سلول {لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعزّ منها الأذل} يريد بالأعز فريقه وبالأذل فريق المسلمين فآذنهم الله بأن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم مما توعدهم الله به من المذلة في الدنيا والعذاب في الآخرة قال تعالى: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلًا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلًا} [الأحزاب: 60، 61].وإذا لم تغن عنهم من الله في الدنيا فإنها أجدر بأن لا تغني عنهم من عذاب الآخرة شيئًا، أي شيئًا قليلًا من الإِغناء.وعن مقاتل: أنهم قالوا: إن محمدًا يزعم أنه ينصر يوم القيامة لقد شقينا إذن.فوالله لنُنْصَرَنّ يوم القيامة بأنفسنا وأولادنا وأموالنا إن كانت قيامة.فنزلت هذه الآية.وإقحام حرف النفي في المعطوف على المنفي لتوكيد انتفاء الإِغناء.ومعنى {من الله} من بأس الله أو من عذابه.وحذفُ مثل هذا كثير في الكلام.وتقديره ظاهر.ويلقب هذا الاستعمال عند علماء أصول الفقه بإضافة الحكم إلى الأعيان على إرادة أشهر أحوالها نحو {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3]، أي أكلها.وجملة {لن تغني عنهم أموالهم} إلخ خبر ثالث أو ثان عن (إنّ) في قوله تعالى: {إنهم ساء ما كانوا يعملون} [المجادلة: 15].وجملة {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} في موضع العلة لِجملة {لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا}، أي لأنهم أصحاب النار، أي حق عليهم أنهم أصحاب النار.وصاحب الشيء ملازمه فلا يفارقه.إذ قد تقرر من قوله: {أعد الله لهم عذابًا شديدًا} [المجادلة: 15] ومن قوله: {فلهم عذاب مهين} [المجادلة: 16] أنهم لا محيص لهم عن النار، فكيف تغني عنهم أموالهم وأولادهم شيئًا من عذاب النار.وهذا كقوله تعالى: {أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار} [الزمر: 19] أي ما أنت تنقذه من النار.فإن اسم الإِشارة في مثل هذا الموقع ينبه على أن المشار إليه صار جديرًا بما يرد بعد اسم الإِشارة من أجل الأخبار التي أخبر بها عنه قبل اسم الإِشارة كما تقدم في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} في سورة [البقرة: 5].{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)}هذا متصل بقوله: {ويحلفون على الكذب} إلى قوله: {اتخذوا أيمانهم جنة} [المجادلة: 14- 16] وتقدم الكلام على نظير قوله: {يوم يبعثهم الله جميعًا فينبئهم بما عملوا} [المجادلة: 6].كما سبق آنفًا في هذه السورة، أي اذكر يوم يبعثهم الله.وحلفهم لله في الآخرة إشارة إلى ما حكاه الله عنهم في قوله: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23].والتشبيه في قوله: {كما يحلفون لكم} في صفة الحلف، وهي قولهم: إنهم غير مشركين، وفي كونه حلفًا على الكذب، وهم يعلمون، ولذلك سماه تعالى فتنة في آية [الأنعام: 23] بقوله تعالى: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين}.ومعنى {ويحسبون أنهم على شيء} يظنون يومئذٍ أن حلفهم يفيدهم تصديقَهم عند الله فيحسبون أنهم حصّلوا شيئًا عظيمًا، أي نافعًا.و {على} للاستعلاء المجازي وهو شدة التلبس بالوصف ونحوِه كقوله: {أولئك على هدى من ربهم} في سورة [البقرة: 5].وحذفت صفة {شيء} لظهور معناها من المقام، أي على شيء نافع، كقوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل} [المائدة: 68].وقول النبي صلى الله عليه وسلم لَمّا سُئِل عن الكُهّان «ليسوا بشيء».وهذا يقتضي توغّلَهم في النفاق ومرونتهم عليه وأنه باق في أرواحهم بعد بعثهم لأن نفوسهم خرجت من عالم الدنيا متخلّقة به، فإن النفوس إنما تكتسب تزكية أو خبثًا في عالم التكليف.وحكمة إيجاد النفوس في الدنيا هي تزكيتها وتصفية أكدارها لتخلص إلى عالم الخلود طاهرة، فإن هي سلكت مسلك التزكية تخلصت إلى عالم الخلود زكية ويزيدها الله زكاء وارتياضًا يوم البعث.وإن انغمست مدة الحياة في حمأة النقائص وصلصال الرذائل جاءت يوم القيامة على ما كانت عليه تشويهًا لحالها لتكون مهزلة لأهل المحشر.وقد تبقى في النفوس الزكية خَلائق لا تنافي الفضيلة ولا تناقض عالم الحقيقة مثل الشهوات المباحة ولقاء الأحبة قال تعالى: {الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين يا عبادي لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون} [الزخرف: 67 70].وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن رجلًا من أهل الجنة يستأذن ربه أن يزرع، فيقول الله: أو لستَ فيما شئتَ قال: بلى ولكن أحب أن أزرع، فأسْرع وبذر فيبادر الطرفَ نباتُه واستواؤه واستحصاده وتكويره أمثالَ الجبال. وكان رجل من أهل البادية عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لا نجد هذا إلا قرشيًا أو أنصاريًا فإنهم أصحاب زَرع فأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم إقرارا لما فهمه الأعرابي»وفي حديث جابر بن عبد الله عن مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُبعَث كل عبد على ما مَات عليه» قال عياض في (الإِكمال): هو عام في كل حالة مات عليها المرء.قال السيوطي: يبعث الزمار بمزماره. وشارب الخمر بقدحه. اهـ.قلت: ثم تتجلى لهم الحقائق على ما هي عليه إذ تصير العلوم على الحقيقة.وختم هذا الكلام بقوله تعالى: {ألا إنهم هم الكاذبون} وهو تذييل جامع لحال كذبهم الذي ذكره الله بقوله: {ويحلفون على الكذب} [المجادلة: 14].فالمراد أن كذبهم عليكم لا يماثله كذب، حتى قُصرت صفة الكاذب عليهم بضمير الفصل في قوله: {إنهم هم الكاذبون} وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بكذب غيرهم.وأكد ذلك بحرف التوكيد توكيدًا لمفاد الحصر الادعائي، وهو أن كذب غيرهم كلا كذب في جانب كذبهم، وبأداة الاستفتاح المقتضية استمالة السمع لخبرهم لتحقيق تمكن صفة الكذب منهم حتى أنهم يلازمهم يوم البعث.{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} استئناف بياني لأن ما سيق من وصفهم بانحصار صفة الكذب فيهم يثير سؤال السامع أن يطلب السبب الذي بلغ بهم إلى هذا الحال الفظيع فيجاب بأنه استحواذ الشيطان عليهم وامتلاكه زمام أنفسهم يصرِّفها كيف يريد وهل يرضى الشيطان إلا بأشد الفساد والغواية.والاستحواذ: الاستيلاء والغلب، وهو استفعال من حَاذ حَوذًا، إذا حاط شيئًا وصرَّفه كيف يريد.يقال: حَاذ العِير إذا جمعها وسَاقَها غالبًا لها.فاشتقُّوا منه استفعل للذي يستولي بتدبير ومعالجة، ولذلك لا يقال: استحوذ إلا في استيلاء العاقل لأنّه يتطلب وسائل استيلاء.ومثله استولَى.والسين والتاء للمبالغة في الغلب مثلها في: استجاب.والأحوذي: القاهر للأمور الصعبة.وقالت عائشة: (كان عمر أحْوذيًا نسيج وَحْدِهِ).وكان حق استحوذ أن يقلب عينه ألفًا لأن أصلها واو متحركة إثر ساكن صحيح وهو غير اسم تعجب ولا مضاعف اللام ولا معتل اللام فحقها أن تنقل حركتها إلى الساكن الصحيح قبلها فرارًا من ثقل الحركة على حرف العلة مع إمكان الاحتفاظ بتلك الحركة بنقلها إلى الحرف قبلها الخالي من الحركة فيبقى حرف العلة ساكنًا سكونًا ميتًا إثر حركة فيقلب مَدّة مجانسة للحركة التي قبلها مثل يَقوم ويَبين وأَقام، فحق استحوذ أن يقال فيه: استحَاذ ولكن الفصيح فيه تصحيحه على خلاف غالب بابه وهو تصحيح سماعي، وله نظائر قليلة منها: استنْوَق الجمل، وأَعْول، إذ رفع صوته.وأَغْيَمَت السماء واستَغْيَل الصبيّ، إذا شرب الغَيْل وهو لبن الحامل.وقال أبو زيد: التصحيح هو لغة لبعض العرب مطردة في هذا الباب كله.وحكى المفسرون أن عمر بن الخطاب قرأ {استحاذ عليهم الشيطان}.وقال الجوهري: تصحيح هذا الباب كله مطرد.وقال في (التسهيل): يطرد تصحيح هذا الباب في كل فعل أهمل ثلاثيه مثل: استنوق الجَمل واستتيست الشاة إذا صارت كالتيس.وتقدم الكلام على الاستحواذ عند قوله تعالى: {قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين} في سورة [النساء: 141]، فضُم هذا إلى ذاك.والنسيان مراد منه لازمه وهو الإِضاعة وتركُ المنسي، لقوله تعالى: {كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} [طه: 126].والذكر يطلق على نطق اللسان باسم أو كلام ويطلق على التذكر بالعقل.وقد يخص هذا الثاني بضم الذال وهو هنا مستعمل في صريحه وكنايته، أي مستعمل في لازمه وهو العبادة والطاعة لأن المعنى أنه أنساهم توحيد الله بكلمة الشهادة والتوجه إليه بالعبادة.والذي لا يَتذكر شيئًا لا يتوجه إلى واجباته.وجملة {أولئك حزب الشيطان} نتيجة وفذلكة لقول: {استحوذ عليهم الشيطان} فإن الاستحواذ يقتضي أنه صيرهم من أتباعه.واسم الإِشارة لزيادة تمييزهم لئلا يتردد في أنهم حزب الشيطان.وجملة {ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} واقعة موقع التفرع والتسبب على جملة {أولئك حزب الشيطان}، فكان مقتضى الظاهر أن يقال: فإن حزب الشيطان هم الخاسرون، ولذلك عُدل عن ذلك إلى حرف الاستفتاح تنبيهًا على أهمية مضمونها وأنه مما يحق العناية باستحضاره في الأذهان مبالغة في التحذير من الاندماج فيهم، والتلبس بمثل أحوالهم المذكورة آنفًا.وزيد هذا التحذير اهتمامًا بتأكيد الخبر بحرف {إن} وبصيغة القصر، إذ لا يتردد أحد في أن حزب الشيطان خاسرون فإن ذلك من القضايا المسلمة بين البشر، فلذلك لم تكن هذه المؤكدات لرد الإِنكار لتحذير المسلمين أن تغرهم حبائل الشيطان وتروق في أنظارهم بزة المنافقين وتخدعهم أيمانهم الكاذبة.
|